الأربعاء، 10 نوفمبر 2010

من طرائف الكسرات


مقالات نشرت في جريدة البلاد

مقدمة :

سوف أتناول في هذه السلسلة ( بعون الله تعالى ) الجانب الترفيهي للكسرة المعتمد على الطرفة والدعابة ، وإشاعة روح التفاؤل والسرور المنبعث من الممازحة اللطيفة بين الأصدقاء والزملاء والإخوان. وهو جانب معروف في الشعر العربي بـ " شعر الإخوانيات "
بيد أن المهتمين بشؤون الكسرة وشجونها لم يوفوه حقه من البحث والتقصي والدراسة ، بحجة أن الكسرات من هذا النوع لا ترتقي إلى الجودة المطلوبة ، والإبداع المنشود ، وإنما هي مجرد أبيات عابرة وليدة لحظتها . يستمتع بها السامع في ذات اللحظة ثم تذهب أدراج الرياح .
والحقيقة أن هذا النوع من الكسرات يسجل الواقع الاجتماعي بدقة متناهية ، ويصور العادات والتقاليد الاجتماعية ، ويرصد كثيرا من ملامح التراث الثقافي للبلد ، كما سوف يظهر وهو حري بالمتابعة والاهتمام .

 
 الحلقة الأولى

أزمع الشاعر محمود النبيهي و نفر من أصدقائه على قضاء بعض أيام الصيف في ينبع النخل ، للتمتع بجوها اللطيف وشجرها الكثيف وعيونها الجارية وبلابلها الصداحة ( حينذاك ) .
وهم في طريقهم إليها مروا على صديقهم الشاعر الكبير حامد النبيهي في ينبع البحر ، لرؤيته والسلام عليه . فطلب منهم الانتظار عنده وتناول طعام الغداء ، ولكنهم رفضوا وأخبروه أنهم يشتهون تناول السمك في ينبع النخل حيث أن له مذاقا آخر هناك . وألح عليهم بالموافقة ولكنهم رفضوا .
وبالفعل ذهبوا إلى سوق السمك واشتروا منه ( بيعة من السمك ) وواصلوا طريقهم إلى ينبع النخل . وقبل أن يتجاوزوا منتصف الطريق تعطل عليهم الجيب الذي كانوا يستقلونه فعادوا أدراجهم إلى البلد لإصلاحه ، وانطلقوا ولم يكادوا يتجاوزون المكان الذي تعطل به الجيب حتى تعرضت إحدى عجلاته لعطب وأخذوا وقتا طويلا لإصلاحه . ومع طول المدة وشدة الحرارة تلف ما كانوا يحملونه من سمك فقاموا بالتخلص منه برميه في الصحراء .
ولما سمع الشاعر حامد النبيهي بما حصل لهم أرسل لهم الكسرة التالية :

 
قالوا لنايـوم  سنَّدتُـوا
والجيب بالدرب  خربتوه
ثلاث مـرات  عودتـوا
والرابعه الحوت طشيتوه


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سندتوا : سافرتم إلى ينبع النخل و "المسند " بتشديد النون مع كسرها هو المسافر من ينبع البحر إلى ينبع النخل ، وعكسه " الحادر " وهو المسافر من ينبع النخل إلى ينبع البحر 

 
الحلقة الثانية

أراد الشاعر همام القائدي أحد شعراء الكسرة البارزين والذي يطلق عليه لقب " ملك المردود " أراد هذا الشاعر أن يداعب صديقه الشاعر حامد النبيهي ، فأوصى أحد أصدقائه المسافرين إلى ينبع واسمه علي أن يمر عليه لحظة سفره ليرسل معه كسرة إلى حامد .
ولكن علي هذا نسي ولم يتذكر الكسرة والمرور على همام إلا بعد وصوله إلى ينبع .. فما كان منه إلا أن مر على الشاعر حامد النبيهي ـ وكان حينئذ يعمل حارسا لخزان المياه في ينبع ـ . وقال له : أن هماما أراد أن يرسل لك كسرة معي ولكني نسيت أن آخذها منه . فقال له حامد : لا بأس ولكن في طريق عودتك إلى جدة ائتني .
ولما جاءه قال له أبلغ سلامي إلى همام وسلمه هذه الكسرة :
 
جانا علي بلغ  الإعـلان
من يمكم يوم وصيتـوه
محسوبكم حارس الخزان
يطلب عفو والقرار الغوه
الأوله اخزوا  الشيطـان
والثانيه فالـذي قلتـوه
والثالثه دونك  الميـدان
والرابعه جهدكم سـووه
ارفع علم وانذر  العربان
عن مال قاصر توليتـوه
قواتنا الآن في  ذهبـان
جنديهم مايْعَرْفَ  اخـوه

 
الحلقة الثالثة

أهالي مدينة ينبع كشأن أهالي المدن الساحلية عموما يحبون أكل السمك ويتفننون بطهيه ، ويصنعون منه أطباقا شهية عديدة منها المشوي والمقلي والمسلوق ، ويكاد يكون السمك الوجبة الرئيسية في غالب البيوت (الينبعاوية ) . ويشجعهم على ذلك وجودهم بجانب البحر وتوفر السمك طازجا .
وهناك نوع من السمك المجفف لا يقل جودة وطيب مذاق عن السمك الطازج وهو " الحوت الناشف " كما يطلق عليه هنا .
.
ويقبل السكان على تناول هذاالنوع من السمك في الصيف ، حيث يطيب أكله مع الرطب ، ويباع بأسعار خيالية ، حيث يتجاوز سعر القرص الواحد ( وهذا اسمه المتعارف عليه عندما يكون جافا ) بأكثر من ثلاثين ريالا بينما لا يتجاوز قيمة السمكة الواحدة الطازجة منه خمسة ريالات .
وله طريقة خاصة في التناول . يتحلق الآكلون فيها حول صحن من الرطب ويتناول كل منهم القرص ويقطع منه قطعة من اللحم الجاف ( مسرة ) بطريقة لا تخلو من مهارة وفن، ثم يناوله الذي بجانبه ليأخذ نصيبه وهكذا ...
وفي جلسة أكل مثل هذه جمعت الشاعر أحمد علي هيرون بمجموعة من أصدقائه رأى أحدهم يستعجل وصول القرص إليه فقال مرتجلا :
أشوفـك تطـل متحسـر
وما اقدر أعدِّيك عن زامك
لما يجيك السـرا مسِِّـر
لأن فيـه نـاس قدامـك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسِّر : اقطع المسرة وهي قطعة من السمك الجاف
 
 
الحلقة الرابعة

بمناسبة الحديث السابق عن السمك الناشف وجودته وطيب مذاقه ، يطيب لي اليوم أن أقدم فكرة مبسطة عن طريقة صنعه .
يقوم الصيادون العاملون بهذه الحرفة أولا باختيار السمك المناسب وتهيئته بطريقة خاصة تعتمد على شقه بطريقة طولية وتنظيفه ومن ثم تعريضه لأشعة الشمس مدة كافية حتى يجف , وهذه الأشعة مع الأملاح المشبع بها السمك كافيتان لإنضاجة دونما حاجة إلى تعريضه للنار . وعادة ما تتم هذه العملية في إحدى الجزر الواقعة في عرض البحر . بعيدا عن القطط والكلاب ، وبعض الحشرات والدواب .
وبعض الناس يقومون بتجفيف كميات قليلة لاستهلاكهم الشخصي في منازلهم .
وقد قام أحدهم بهذه العملية في سطح منزله ولما جاء في اليوم التالي ليتفقد السمك وجد أن أسرابا من النمل قد هاجمته ففكر في طريقة يبعده فيها عن متناول النمل . فلم يجد وسيلة أفضل من أن ينشره على الصحن الفضائي ( الدش ) .
فبلغ هذا الخبر صديقه الشاعر الرائع الأستاذ طه بخيت الذي لم يكذب خبرا ، فأرسل له الكسرة التالية :

قالوا لنا وقلـت مـو معقـول
بيعه مـن الحـوت منشـوره
تناقلتـهـا وكـالـة  قــول
اللـي بالأخبـار  مشـهـوره
من خوف بعض البسوس تفول
أو تدخـل البيـت مـعـذوره
حافظ على ارسالها لا  يطـول
وارجوك لا تشفـر  الصـوره


الحلقة الخامسة

هذه الكسرة من الكسرات الغريبة والنادرة لأنها مبنية على الحركة ، و يستحيل علي المتلقي فهمها دون أن يشاهد إشارة الراوي المقترنة مع الإلقاء ..
والبداية أننا في صيف عام 1391هـ قمنا برحلة إلى مدينة أملج مع مجموعة من ألأصدقاء ، وكانت الرحلة شاقة وعسيرة ، فلم يكن الطريق إليها معبدا آنذاك ، ولم تكن السيارات بالرفاهية التي هي عليها اليوم . وقبل الوصول إلى أملج تعترض طريقك منطقة ( القواق ) حيث يصبح البحر الهادر على يسارك والرمال المتلاطمة على يمينك ، ولا مناص من عبورها إلا بأن ينتظر قائدو السيارات لحظة انخفاض منسوب البحر ( الجزر ) فيجتازونها من مضيق لايتجاوز عرضه المترين وبطول عشرة كيلومترات تقريبا ، ولكنهم بمهارة تدربوا عليها يجعلون عجلات الجانب الأيمن للسيارة في اليابسة وعجلات الجانب الأيسر في البحر وينفذون بطريقة لا تخلو من المغامرة المشوبة بالحذر والخوف .
وهناك استقر بنا المقام في مزرعة للشيخ عوده بن عايد المرواني ، وهي مزرعة وارفة الظلال ، كثيفة الأشجار ، بها أصناف متعددة من الفواكه المتنوعة ، التي تسر الناظر وتبهج القلب . الشئ الذي أنسانا متاعب السفر .. وكان أحد رفاق الرحلة الشاعر خفيف الظل الأستاذ ابراهيم أبو جلاس فقال بروح الدعابة التي يشتهر بها :
 
فبستان عوده ابن عايد
والله كذا : حبة  المنقا

وأشار بيديه الاثنتين عند كلمة كذا ليوضح لنا حجم الثمرة .. فاستغرقنا جميعنا في ضحك متواصل ، قبل أن يكمل كاتب السطور:
 
ومن الجنى طلعها زايـد
تاكل كذا : وانت ما ترقى

وبإشارة أيضا لعملية التناول من الشجرة إلى الفم .
 

الحلقة السادسة

عزم أحمد الزليباني على زيارة ابن عمه حمدان الزليباني في ينبع النخل لرؤيته والسلام عليه ، وكان رفيقه في سفره الشاعر الكبير جميل الريفي والد عميد الغباوي محمد جميل . وعندما وصلوا إلى هناك مروا بجانب مزرعة حمدان الزليباني . ورأوا قنوان البلح دانية ، فاشتهوا أن يتذوقوها ، فطلب جميل من أحمد أن يرقى إلى النخلة ويأتي له ببعض الرطب ، وبما أن الوقت كان قبيل المغرب والرؤية محدودة ، لم يشاهدوا حمدان الذي كان مضطجعا بجانب جدار بجوار هذه النخلة .
وعندما صعد أحمد إلى النخلة .. وجد أن أكثر رطبها ( مفغي ) فنادى على جميل وقال له : ألم تجد غير هذه النخلة لنجني منها إنها ( مفغية ) فقال له جميل :
كب الفغو والقط الغيني
الليل عجل لنا ذلـوان

وكان حمدان يسمع مادار بينهما من حوار دون أن يعلموا . فما كان منه إلا أن أكمل :
 
وحطها بفمك واعطيني
قدام لا يشوفنا  حمدان

وكانت مداخلة ظريفة بالفعل رحمهم الله جميعا .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفغو / حبة الرطب تجف قشرتها ، وتضمر ثمرتها فيصبح طعمها غير مستساغ
الغيني / الرطب الفاخر 
 

الحلقة السابعة

الشاعر محمد مفوز أبو شعبان ( رحمه الله ) أحد شعراء الكسرة العظام ، وله صولات وجولات في ساحات الرديح ، وفي المراسلات . قابل جميع عمالقة الشعر في عصره ، ودارت بينه وبينهم الكثير من المحاورات الخالدة المسجلة في ذاكرة الرواة .
وهو إضافة إلى ذلك شاعر خفيف الظل يتمتع بروح الدعابة والمفاكهة والظرف . ولا تخلو أشعاره من هذه الروح التي تذكرك بالشاعر العباسي بشار بن برد.
ومن كسراته الطريفة هذه الكسرة التي أوردهاالأستاذ القدير خلف أحمد عاشور في كتابه أيام وأيام ، عرضا وهو يتحدث عن معاناة أهالي ينبع في القـديم من شح المياه ، واعتمادهم على ما تنتجه
الكنداسة من ماء قليل ـ وإن لم يشر إلى قائل الكسرة أو مناسبتها ـ إذ يقول :
"
أن الشاعر سطرها في قرطاس بعث به إلى مدير الكنداسة يستحثه بل يحرضه تحريضا عجيبا على إيقاف مكائن الكنداسة عن العمل لمدة شهرين .. لماذا ؟ لست أدري ؟ " والكسرة تقول :
 
لا تحركون المكاين  كان
مني إجازه لكم شهريـن
آنا أجي والزم الأركـان
واملا التوانك بدمع العين

وإجابة على تساؤل الأستاذ خلف تقول الرواية : أن للشاعر صديقا كان يعمل موظفا في الكنداسة ، وهو يريد أن يمنح هذه الإجازة ليكون بصحبته خلالها .
ومن كسراته الطريفة 
 
الكل حظه معه في  فوز
والحظ عيّا معي يرقـى
الناس تاكل هريسه بلوز
آنا أدوّر فجل ما  القـى

وله أيضا 
 
الكل حظه معـه بهـرج
يمشي معه فالحياة مريح
وآنا الذي حظي  الأعرج
قليل يمشي معي ويطيح

وطرافة هذه الكسرة تكمن في أنه يعرض بنفسه في وصف الحظ بالعرج الذي كان يعاني منه .
والمقام لا يتسع لذكر أمثلة كثيرة ، ولكنها معروفة على كل حال ومتداولة بين عشاق الكسرة .

ليست هناك تعليقات: