الجمعة، 31 أكتوبر 2014

عياد أبو بديرة







هذه حكاية رجل من الزمن القديم أقدمها لما فيها من العبرة والموعظة وشهودها كانوا أحياء إلى ما قبل ثلاثين عاما قابلتهم وسمعت القصة منهم بتواتر


هو رجل صالح من الصبيحات من حبيش والصبيحات من أرق الناس قلوبا وأطيبهم أنفسا وأكثرهم حبا وتواصلا مع بعضهم البعض.
وهذا الرجل منهم نذر نفسه لفعل الخير والتقرب إلى الله بالطاعات ومساعدة المحتاجين بما تيسر له وما يقدر عليه وهو لا يقدر عادة إلا على النذر اليسير ولكنه لا يحقر من المعروف شيئا قد جعل بينه وبين الله صلة يحرص على ألا تنقطع



كان أقصى ما يستطيع أن يبذله شربة ماء يقدمها لمحتاج .. فتجده يحمل قربته على ظهره كل يوم ويعترض طريق القوافل ليروي العطشى ويسقي الظمأى من مرتادي الطريق وعابري السبيل ويزداد نشاطه في مواسم الحج حيث يكثر الحجاج الذين يجهلون الدروب وتتقطع بهم السبل ولا يعرفون موارد المياه في مثل هذا الطريق المجهول ( درب الحاج ) . فتجده مرافقا لهم من حدود قريته الشبحة حتى يصلوا إلى قرية المبارك بينبع النخل وكلما فرغت قربته عاد وملأها من الآبار التي يعرفها جيدا وواصل اللحاق بالحجاج حتى يبلغهم مأمنهم فأصبح لقبه (أبو بديرة ) يتردد على لسان كل عابر يذكره بالخير ويدعو له بالأجر

(البديرة تصغير بدرة وتعني القربة الصغيرة ).


وبعد أن ينهي مهمته كان يعرج على قرية عين عجلان فيمكث فيها أياما ملازما لبعض المشائخ الذين يلقون الدروس في مسجد المحول ويعود بعدها إلى الشبحة راضيا قرير العين بما فعله على الرغم مما يعانيه من مشقة وما يواجهه من استهجان كثير من المحيطين به الذين يرون أنه يقوم بعبث لا طائل من ورائه ولا ينال عليه أجرا في حين أن الحاج في ذلك الزمن يعتبر صيدا ثمينا لقطاع الطرق والباحثين عن المنفعة يرون سلبه رزقا حلالا ساقه الله إليهم بينما هو يقدم لهم هذه الخدمة مجانا . وقد غاب عن إدراكهم أن المقابل سيكون ثوابا من الله عز وجل هو خير وأعظم أجرا

وكان أبو بديرة محافظا على الصلاة في أوقاتها في وقت قلّ فيه من يعرف الصلاة وكان حتى في صلاته يجد معارضة الفريق الذي يرى أنه كان يجفّل أغنامهم ويزعج إبلهم فيصحيها قبل موعد صحوها حين يرفع صوته بالأذان لصلاة الفجر في كل يوم . ولكنه ظل على هذه الحال صابرا محتسبا لا يعبأ بما يقال ولا يثنيه عما يفعله رفض أوتندر .. وما زال هذا ديدنه طيلة حياته حتى دنت ساعة وفاته وهنا حدثت المعجزة .

حدثت المعجزة التي لم يتصورها عقل ! كان موته في يوم قائظ من أيام صيف الشبحة اللاهب .. وتجمع الناس لتجهيز جنازته بجانب البيوت في عز الظهيرة حيث لا يوجد مكان داخلها . وعندما رفعوا أبصارهم إلى السماء رؤوا قطعا من السحب المتناثرة قد تكونت ثم تقاربت وتجمعت حتى انعقدت فوق رؤوسهم كأنها الظلة ! أمر عجيب يحدث في فصل لا ترى فيه السحب ! ومكثت هذه السحابة فوقهم حتى غسلوه وكفنوه وصلوا عليه .. وعندما ذهبوا به ليدفنوه شاهدوا السحابة تسير فوق رؤوسهم حتى انتهوا به إلى القبر وحفروه ووضعوا الجثمان فيه .. وما كادوا ينتهون من ذلك حتى تفرقت السحابة وتلاشت كأنها لم تكن !! سبحانك يا إلهي !



ولكن هل انتهت المعجزة عند هذا الحد ؟

عاد القوم أدراجهم يستعرضون سيرة الرجل الصالح ويتذكرون سخريتهم منه وتندرهم عليه ويتفكرون فيما حدث ويعجبون ! ولما بلغوا منتصف الطريق سمعوا صوت انفجار ينبعث من ناحية القبر وحانت منهم التفاتة وإذا بهم يرون دخانا متصاعدا يشق عنان السماء فصاح أبناؤه معتق وعتيّق وصلاح يطلبون من القوم العودة فالقبر كما يبدو قد انهدم ولا بد من إعادة بنائه من جديد

وعندما وصلوا إليه تكشفت لهم المفاجأة التي لم تكن تخطر على بال وجدوا القبر مفتوحا والكفن في قاعه فارغا تضوع منه رائحة المسك .



هال الناس ماوجدوه وحاروا في اختفاء الجسد بهذه الكيفية ألا أنهم أجمعوا على أنها من حسن الخاتمة .. ولكن أولاده يريدون ما يطمئنهم فأخذوا الكفن وذهبوا به إلى المشائخ الذين كان يتردد عليهم في مسجد المحول في عين عجلان وأخبروهم بخبره فإذا بهم بعد أن صلوا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقولون هنيئا لسيدنا عياد أبو بديرة فهذا دليل على أن جنازته انتقلت إلى المدينة المنورة وقاموا يصلون عليه صلاة الغائب . ويبشرون أولاده بحسن الخاتمة . وبقى الكفن في حوزة أولاده ماقدر له أن يبقى تضوع منه رائحة المسك !



هذا الرجل الصالح هو عياد بن معتق الحبيشي والد جدتي مسفرة عياد رحمها الله

ولكن الغريب في الأمر أن جدتي لم تكن تذكر هذه القصة على كثرة ما ترويه لي من قصص إلا ما كنت أسمعه منها عرضا عندما تتذاكرها مع أحد أبناء إخوانها ولم تكن تسمح لي بالسؤال عنها وكنت عندما ألح عليها لا تزيد على قول : (عمله له الله ربنا وربه ) ولم تكن مداركي حينها تستوعب معنى هذه الجملة إلى أن عرفت فيما بعد أنها لا تريد الركون إلى ما خص الله به أباها من كرامة إذ لا ينفع العبد إلا عمله الصالح فامرأة لوط وامرأة نوح كانتا في النار وهما زوجتا نبيين عظيمين وامرأة فرعون في الجنة وهي زوجة طاغوت الزمان وأننا جميعا نستطيع أن نفعل الخير ونخلص فيه مثل فعله وإخلاصه فنصبح مثله




كان ذلك هو فهم جدتي للطاعة وقد يكون ذلك من تمام الفضل الذي خصه الله به حتى لا يغلو فيه الناس أو ينزلوه منزلة فوق منزلته كما يفعل البعض حول قبور الصالحين في كثير من البلاد



أما جدتي رحمها الله فقد كانت أشبه الناس به في محافظته على الصلاة فقد ماتت وهي ما بين وضوء وصلاة ووضوء وصلاة وكذلك بقية عقبه .



رحم الله عياد أبو بديره وجمعنا به في مستقر رحمته