الجمعة، 10 ديسمبر 2010

افتتاح سوق الليل بينبع والأستاذة نوال حادي


والحديث عن الأستاذة نوال حادي يجرني بالضرورة إلى الحديث عن البداية .. كيف بدأ الترتيب لتشغيل سوق الليل بينبع وكيف أخبرنا رئيس لجنة اصدقاء التراث الأستاذ أبو سفيان عما تمخض عنه الاجتماع الذي عقد برئاسة سعادة محافظ ينبع وأوكل فيه إلى لجنة اصدقاء التراث مهمة تأهيل السوق وإكمال تجهيزه استعدادا لحفل الافتتاح والزيارة المرتقبة لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان وصاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن ماجد


ولكن ماكاد أبو سفيان يبلغنا الخبر حتى تم استدعاؤه لحضور الاجتماع التأسيسي لجمعية المحافظة على التراث في الرياض ولم تفلح كل الأعذار التي قدمها للسماح له بالتخلف عن حضور الاجتماع



سافر أبو سفيان وفكره مشغول بما سوف نعمله في غيابه.. أعطاني قبل أن يسافر مفاتيح السوق ومخططا تفصيليا للدكاكين واسم صاحب كل دكان وقال لي أما هذا القسم فهو مخصص للنساء وسيشرف عليه الأسٍتاذ إبراهيم بدوي ! سبحان الله ـ نساء في سوق الليل ! لم أسمع بهذا من قبل بيد أنني عدت وتذكرت ( أم سعيّد ) رحمها الله المرأة الوحيدة التي كنا نراها في السوق تبيع وتشتري وتتحدث مع الرجال وبعض البنات اللواتي يبعن الخرائط على أصحاب الدكاكين (الخرائط أكياس تصنعها البنات في البيوت من قصاصات القماش وتعد لحمل الأغراض كاستعمال أكياس النايلون الآن ) .. وطالما أنه ظهر في الحفيدات من يقمن بمثل هذا العمل الآن فما المانع ؟
المهم أن أبا سفيان طلب مني متابعة ذلك ولم يكتف بهذا بل أخذ يتصل بنفسه على أصحاب الدكاكين وهو في الرياض ويحثهم على نقل الأغراض ثم يتصل بي ويخبرني بما تم ويطلب مني متابعة بعض التكليفات من نظافة السوق وتغسيله وفتحه وإغلاقه واللوحات الترحيبية وما يعمله الحداد والنجار والخطاط وعبد الجليل !! إلى آخر القائمة الطويلة .. والحقيقة أن العمل مع أبو سفيان مريح وهو حاضر متعب وهو غائب ..عندما يكون حاضرا لا نشعر بأي جهد فهو يقوم بجميع الأعمال وحيدا أما في غيابه فالأمر مختلف والاتصالات تكر على مدار الساعة يريد أن يطمئن على كل شئ وأن يعرف أدق التفاصيل وكنت أظن أنه يخصني وحدي بكل التكليفات بما جعلني أغير في برنامجي اليومي وفي مواعيد صحوي ونومي إلى أن سألت زميلي الدكتور محمد سالم البلوي والأستاذ محمد عباس فوجدت أنهما أيضا يكلفان بمثل ما أكلف به إن لم يكن أكثر


إذن هو هاجس الكمال الذي ينشده رئيس لجنة التراث .. قلت له ذات اتصال اطمئن واهتم بما أنت مقدم عليه فالأمور هنا تسير على ما يرام ، وأنا أعرف أنه لا ينقصه الاهتمام بما هو مقدم عليه ولكني أريد أن يخف علينا قليلا فنحظى ببعض الوقت المستقطع على طريقة أهل الكرة .

أصحاب المحلات أتعبونا كثيرا في الحضور وفي نقل الأغراض فكنا نكلم الواحد منهم ثم نعيد عليه الطلب ثم نكلم ونعيد حتى خشينا أن يدركنا الوقت ويعود أبو سفيان دون أن نعمل شيئا فالسوق جاهز ونظيف ولكن نقل الأغراض وترتيبها مسؤولية صاحب كل دكان
وكان بعضهم يتقاعس عن ذلك !


أما النساء فقد جئن متأخرات قبيل الافتتاح بيوم وضربن بيننا وبينهن بحاجز من مشمع أزرق فانفصلن عنا وانفصلنا عنهن وصرنا لا نعلم عما يدور في قسمهن شيئا وحمدت الله على ذلك فقد كفيننا مؤونة متابعتهن إضافة إلى أن الأستاذ أبو سفيان قد حضر في نفس اليوم بعد المغرب وآن لنا بعد حضوره أن نريح ونستريح


جاء أبو سفيان مباشرة من المطار إلى المقر و ذهبنا معا إلى مقر الاحتفال وشاهدنا البروفة الأخيرة التي أجريت بحضور المحافظ وعدنا لإغلاق سوق الليل بعد العشاء وإذا بالنساء لم ينتهين بعد فلبثت قليلا ثم استأذنت من أبي سفيان وذهبت وعرفت فيما بعد أنهن مكثن هناك إلى منتصف الليل


وفي صباح اليوم التالي المعد للاحتفال بقي الحاجز مضروبا كما كان وظل ما تم عمله بواسطة النساء محجوبا عنا حتى أزيح الستار عنه قبيل وصول الأميرين بلحظات


عندما أزيح الحاجز كان المنظر مدهشا ومخالفا لكل ما تنبأنا به .. وجدنا ستة محلات مليئة بشتى صنوف المعروضات التراثية من أعمال يدوية ومنسوجات ومأكولات وملابس وتجهيزات ومكيفات قد ركبت.. تخيلوا ! إلى جانب برنامج متكامل قدمه مجموعة من الطالبات المدربات تدريبا متقنا يحوي قصائد وأناشيد واستقبال باهر بالورود وبعض المأكولات الخفيفة وترتيب وتنسيق رائع للمعروضات حاز على رضا الأميرين وإعجاب الزائرين وأخذ الأميران يسألان الطالبات عن البرنامج وعن القصيدة وعن المعروضات وطلبا أن تلتقط لهما الصور التذكارية مع هذه الكوكبة من البراعم المتفتحة .. في اهتمام لم يحظ قسم الرجال ومعروضاتهم بعشر ما حصلوا عليه ولا غرابة في هذا فالجيد يفرض نفسه والعمل المتواصل بجد وإخلاص يكسب صاحبه الحمد والثناء أما تأدية الواجب بكيفما اتفق فستقابل بتأدية واجب مثلها .


ولكن متى تم هذا ؟ وكيف تم توزيع العمل بهذه الدقة ؟ كما عرفنا أن بعض هؤلاء النسوة قد جئن من العيص ليشاركن في العمل بهذا النشاط وبهذه الهمة

هل تريدون أن أضع لكم مقارنة بين قسم وقسم أو بين ظرف وظرف أو بين رجل وامرأة .. لا .. فالمقارنة مخجلة لأبناء جنسي ولكني أقول سامح الله كل من يسعى لتعطيل هذا النصف المنتج من المجتمع والذي يخيل إلي أن وراء تعطيله رجلا يخشى المنافسة !



نعود إلى الأستاذة نوال حادي مديرة مركز سيدات الأعمال بالغرفة التجارية مخرجة العمل وصانعة النجاح .. لازمت العاملات طيلة وجودهن لم تبرح مكانها للحظة يدها بيدهن وقلبها معهن وجهودها مسخرة لتذليل كل صعب ينوء بتذليله الرجال أولو القوة حتى ظهر العمل كأجمل ما يكون الظهور .. والنجاح ليس غريبا عليها فقد عرفناها ورصدنا نجاحاتها التربوية عندما كانت تضطلع بأعباء الإشراف التربوي بإدارة التربية والتعليم ثم حينما انتقلت لتكون عونا لزوجها الأستاذ إبراهيم بدوي رئيس الغرفة التجارية الصناعية بينبع في تأسيس مركز سيدات الأعمال وما تبعه من إدارة المركز والمنتجات وتدريب العاملات وتبرعها السخي لبناء مقر لهذا المركز وجهودها في مهرجان ربيع ينبع 31 في نجاح متواصل عم أثره الجميع بما يدل على أن النجاح صفة ملازمة لها في أي مجال أو زمان أو مكان


وأعترف أنني في هذه العجالة لا أسٍتطيع أن أفيها كل حقها من الإشادة والذكر ولكني قد أعود يوما ما لإكمال ما بدأته عنها إن شاء الله أما الآن فحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق .. وإذا كان وراء كل عظيم إمرأة فإن وراء كل عظيمة رجلا.. وهذا التكامل بينهما نسأل الله أن يديمه وأن يكون خيره لصالح البلاد والعباد وأن يحفظ الله أولادهما من كل سوء


كما لا يفوتني أن أشكر المتعاونات والطالبات وكم كنت أتمنى لو نقشت أسماؤهن بحروف من ذهب في سجل تأريخ هذا الحدث الرائد فإنهن جديرات بذلك

الاثنين، 29 نوفمبر 2010

ملك القلوب

تعود بي الذاكرة إلى العام 2005 م عندما قام خادم الحرمين الشريفين بزيارة ميمونة لمحافظة ينبع وضع خلالها حجر الأساس لمشروع ينبع 2 كان حينها وليا للعهد وكان في استقباله في الحفل المعد له في خليج رضوى فرقة ينبع للفنون الشعبية بأهازيجها الفلكلورية الجميلة وما أن أطل بطلعته البهية حتى فاجأ أفراد الفرقة بالتفاعل مع أهازيجهم والتلويح لهم بيده على إيقاع أنغامهم حتى أزال حاجز الكلفة وأدخل الجميع في فرح غامر شاركه فيه المستقبلون ومجموعة الأمراء المصاحبين .. حينها لم يملك رئيس الفرقة عواد محمد ناصر إلا أن يقول بتلقائية عجيبة ( الله يجبر خاطرك جبرت خواطرنا يا شيخ ) وكانت هذه العبارة لسان حال الجميع ليس في هذه المناسبة فحسب ولكن في كل المناسبات الشعبية التي يحضرها خادم الحرمين الشريفين فينثر في أجوائها الفرح والسرور
وعندما كان نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء ورئيسا للحرس الوطني كنا نسمع ما لا نستطيع أن نتصوره من تعامله مع أفراد الحرس الوطني وما يروونه عنه من حب وألفة يخصهم بها وهو يسامرهم في كثير من الليالي التي ينتظرون قدومه فيها بفارغ صبر وكنا نظن أنهم يبالغون .. حتى بدا لنا ما أثمر عنه هذا التعامل الراقي من تحويل الحرس الوطني من مجموعة من المجاهدين مع والده الملك عبد العزيز طيب الله ثراه إلى جيش نظامي مدرب كامل العدة والعتاد يضاهي أفضل القطاعات العسكرية في العالم ويتمتع أفراده بثقافة عالية ومستوى اجتماعي رفيع
وعندما أصبح وليا للعهد رأينا في استقبالاته للمواطنين ما زرع الدهشة في العقول والقلوب فهذا الرجل العظيم قدرا ومقاما يستمع إلى المواطنين باهتمام ويتبادل الحديث معهم بأريحية ويقرب الكرسي للشيخ الطاعن في السن ويمسك بيده ليساعده على الوقوف أو الجلوس بحنو ورأفة ولا ينصرف عنه حتى ينصرف هو
وفي احتفالات البيعة في مكة المكرمة رأيناه يمازح المواطنين ويأخذ رغيف الخبز (التميز ) من يد صانعه فيقتطع منه قطعة يأكلها ويناول الباقي لمرافقيه بعيدا عن قيود البروتوكول ولكم أن تتخيلوا وقع هذه البادرة في نفس الصانع والرائي والمتابع
وعندما استقبله الأطفال في إحدى الاحتفالات وأخذوا ينثرون الورود في طريقه وبين يديه صار يأخذ الورد من سلالهم وينثره عليهم بأبوة وحنان
وفي إحدى المناسبات الرياضية في استاد الملك فهد أطلقت أسراب من الحمام فضلّت حمامة طريقها ودخلت المنصة الملكية فمد يده إليها برفق وتؤدة وأمسكها بحرفنة وأطلق سراحها لتلحق بالسرب
وفي مرضه الأخير لم تفارق البسمة شفتيه وهو يروي قصة مرضه ويقول : بعض الناس يقول أنه عرق النساء والنساء لا يأتي منهن إلا الخير
ما هذه الكاريزما الملكية والشفافية المثالية في التعامل مع الشيخ والطفل والشاب والمرأة ؟ حتى الطير لم يحرم من إنسانيته الفريدة وأخلاقه الحميدة .. في تصرفات لم نعد نسمع عنها إلا في بطون الكتب من أخبار السلف الصالح
هذه الملامح التي تظهر منه في المناسبات العامة هي بعض ما يعتلج في صدره وما تكتنزه جوانحه من مشاعر إنسانية وود عميق لكل فرد من أفراد شعبه الوفي الذي أصبح يبادله حبا بحب ووفاء بوفاء ولا أعلم فيما أعلم لا رجلا ولا امرأة ولا طفلا إلآ وهو يكن له الحب ويحمل له في قلبه الكثير من مشاعر الود وحتى المناوئين للمملكة والموتورين عليها يقولون عنها ويتقولون عليها بما يعن من افتراءات حتى يأتي الحديث عنه فيحجمون لأنهم لا يستطيعون أن يواجهوا هذا التيار الجارف من الحب المتغلغل في النفوس فمثل هؤلاء عادة يعزفون على وتر الشعوب فيما تحب وتكره وشعب المملكة كله مجمع على حبه بما لا يدع فرصة لظهور نغمة نشاز أن تتسلل فتعكر أجواء المودة والصفاء
هذا الملك العادل أعاد لنا سيرة الخلفاء الراشدين وقد رأيناه يفعل كما يفعلون .. يتفقد الرعية ويتجول في بيوت الفقراء ويتناول من طعامهم ويتحدث عن آلامهم وأحلامهم ويعاهد الله على أن يعمل على رفع معاناتهم
وهل رأيتموه في احتفاء منطقة القصيم عندما قدم أبناء الشهداء الذين قضوا في مواجهة الإرهابيين للسلام عليه كيف احتفى بهم وقبلهم واحداً واحدا وكيف تحركت لديه مشاعر الأبوة الصادقة فلم يستطع كف دموعه التي انهمرت على وجنتيه فأجهش بالبكاء وأبكى معه الملايين
يا الله .. أي قلب يحمله هذا الرجل بين جنبيه وأي روح سامية تعتمر إهابه فتتفجر من خلالها هذه اللمحات الإنسانية التي قل أن تتوفر لغيره من بني البشر
وقد ترجم هذا الحب بأن حقق لشعبه العديد من الانجازات المهمة فقد تضاعفت أعداد جامعات المملكة في عهده من ثماني جامعات إلى أكثر من عشرين جامعة وافتتحت الكليات والمعاهد التقنية والصحية وكليات تعليم البنات. وأنشئت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية والعديد من المدن الاقتصادية كمدينة الملك عبدالله الاقتصادية في رابغ ومدينة الأمير عبدالعزيز بن مساعد الاقتصادية في حائل ومدينة جازان الاقتصادية ومدينة المعرفة الاقتصادية بالمدينة المنورة إلى جانب مركز الملك عبدالله المالي بمدينة الرياض.
واتسم عهده بسمات حضارية رائدة جسدت ما اتصف به رعاه الله من صفات نادرة أبرزها تفانيه في خدمة وطنه ومواطنيه بأجمعهم في كل شأن وفى كل بقعة داخل الوطن، وها نحن نرى مشاريع الإسكان الخيرية التي اضطلع بتأسيسها لكثير من أبناء القرى الذين كانوا يفترشون الثرى ويلتحفون السماء وقد غدت اليوم مدنا مأهولة مكتملة المرافق في ثول وفي خليص وفي النباة والشبعان والحسي وفي غيرها من مناطق المملكة
إضافة إلى حرصه الدائم على سن الأنظمة وبناء دولة المؤسسات والمعلومات في شتى المجالات . وإيجاد حلول تنموية فاعلة لمواجهة الكثير من التحديات
هذا كله في الشأن الخارجي .. أما في القضايا الخارجية فقد منحه الله فكرا صائبا ورأيا سديدا وحكمة بالغة وما زلت أذكر قمة الدوحة التي امتنع الرئيس حسني مبارك عن حضورها فانبرت الصحف ووسائل الإعلام حينها تنتقد هذا الموقف من الرئيس وتحرض السياسيين على إدانته
عندها وجه له أحد الإعلاميين سؤالا ملغوما حول رأيه في امتناع الرئيس حسني مبارك عن الحضور فقال ببديهة حاضرة : صعب .. عدم حضور أخي حسني صعب !!
فبهت الإعلامي ولم يعرف هل هي صعوبة على القمة أم على حسني ! يا لها من لياقة ولباقة تأتي هبة ربانية يمنحها الله من يشاء .. لم ينتقد ولم يأت في صف من أراد الاستعداء وإنما أعطى جوابا مختصرا ومفيدا يركز على دور مصر ومكانة رئيسها مع الإشارة الضمنية بأنه لا يحبذ هذا الامتناع
ألا يحق لنا بعد ذلك أن نفخر بهذا الملك الإنسان وأن تهتز قلوبنا وترتاع أفئدتنا عندما نسمع خبرا يتعلق بصحته جعلت أرواحنا كلها فداه
وقد رصدت وسائل الإعلام كيف اعتصر الألم قلب كل فرد من أفراد الشعب عندما سمع نبأ ما ألم به من سقم وكيف شُغل به وانشغل عليه وكأننا نسمع وجيب قلوبهم وهمهمة دعواتهم وهم يضرعون إلى البارئ عز وجل بأن يلبسه ثوب الصحة والعافية وأن يرده سالما معافى فتكتحل العيون بطلعته وتقر القلوب برؤيته .
آمين يا رب

الأربعاء، 10 نوفمبر 2010

من طرائف الكسرات


مقالات نشرت في جريدة البلاد

مقدمة :

سوف أتناول في هذه السلسلة ( بعون الله تعالى ) الجانب الترفيهي للكسرة المعتمد على الطرفة والدعابة ، وإشاعة روح التفاؤل والسرور المنبعث من الممازحة اللطيفة بين الأصدقاء والزملاء والإخوان. وهو جانب معروف في الشعر العربي بـ " شعر الإخوانيات "
بيد أن المهتمين بشؤون الكسرة وشجونها لم يوفوه حقه من البحث والتقصي والدراسة ، بحجة أن الكسرات من هذا النوع لا ترتقي إلى الجودة المطلوبة ، والإبداع المنشود ، وإنما هي مجرد أبيات عابرة وليدة لحظتها . يستمتع بها السامع في ذات اللحظة ثم تذهب أدراج الرياح .
والحقيقة أن هذا النوع من الكسرات يسجل الواقع الاجتماعي بدقة متناهية ، ويصور العادات والتقاليد الاجتماعية ، ويرصد كثيرا من ملامح التراث الثقافي للبلد ، كما سوف يظهر وهو حري بالمتابعة والاهتمام .

 
 الحلقة الأولى

أزمع الشاعر محمود النبيهي و نفر من أصدقائه على قضاء بعض أيام الصيف في ينبع النخل ، للتمتع بجوها اللطيف وشجرها الكثيف وعيونها الجارية وبلابلها الصداحة ( حينذاك ) .
وهم في طريقهم إليها مروا على صديقهم الشاعر الكبير حامد النبيهي في ينبع البحر ، لرؤيته والسلام عليه . فطلب منهم الانتظار عنده وتناول طعام الغداء ، ولكنهم رفضوا وأخبروه أنهم يشتهون تناول السمك في ينبع النخل حيث أن له مذاقا آخر هناك . وألح عليهم بالموافقة ولكنهم رفضوا .
وبالفعل ذهبوا إلى سوق السمك واشتروا منه ( بيعة من السمك ) وواصلوا طريقهم إلى ينبع النخل . وقبل أن يتجاوزوا منتصف الطريق تعطل عليهم الجيب الذي كانوا يستقلونه فعادوا أدراجهم إلى البلد لإصلاحه ، وانطلقوا ولم يكادوا يتجاوزون المكان الذي تعطل به الجيب حتى تعرضت إحدى عجلاته لعطب وأخذوا وقتا طويلا لإصلاحه . ومع طول المدة وشدة الحرارة تلف ما كانوا يحملونه من سمك فقاموا بالتخلص منه برميه في الصحراء .
ولما سمع الشاعر حامد النبيهي بما حصل لهم أرسل لهم الكسرة التالية :

 
قالوا لنايـوم  سنَّدتُـوا
والجيب بالدرب  خربتوه
ثلاث مـرات  عودتـوا
والرابعه الحوت طشيتوه


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سندتوا : سافرتم إلى ينبع النخل و "المسند " بتشديد النون مع كسرها هو المسافر من ينبع البحر إلى ينبع النخل ، وعكسه " الحادر " وهو المسافر من ينبع النخل إلى ينبع البحر 

 
الحلقة الثانية

أراد الشاعر همام القائدي أحد شعراء الكسرة البارزين والذي يطلق عليه لقب " ملك المردود " أراد هذا الشاعر أن يداعب صديقه الشاعر حامد النبيهي ، فأوصى أحد أصدقائه المسافرين إلى ينبع واسمه علي أن يمر عليه لحظة سفره ليرسل معه كسرة إلى حامد .
ولكن علي هذا نسي ولم يتذكر الكسرة والمرور على همام إلا بعد وصوله إلى ينبع .. فما كان منه إلا أن مر على الشاعر حامد النبيهي ـ وكان حينئذ يعمل حارسا لخزان المياه في ينبع ـ . وقال له : أن هماما أراد أن يرسل لك كسرة معي ولكني نسيت أن آخذها منه . فقال له حامد : لا بأس ولكن في طريق عودتك إلى جدة ائتني .
ولما جاءه قال له أبلغ سلامي إلى همام وسلمه هذه الكسرة :
 
جانا علي بلغ  الإعـلان
من يمكم يوم وصيتـوه
محسوبكم حارس الخزان
يطلب عفو والقرار الغوه
الأوله اخزوا  الشيطـان
والثانيه فالـذي قلتـوه
والثالثه دونك  الميـدان
والرابعه جهدكم سـووه
ارفع علم وانذر  العربان
عن مال قاصر توليتـوه
قواتنا الآن في  ذهبـان
جنديهم مايْعَرْفَ  اخـوه

 
الحلقة الثالثة

أهالي مدينة ينبع كشأن أهالي المدن الساحلية عموما يحبون أكل السمك ويتفننون بطهيه ، ويصنعون منه أطباقا شهية عديدة منها المشوي والمقلي والمسلوق ، ويكاد يكون السمك الوجبة الرئيسية في غالب البيوت (الينبعاوية ) . ويشجعهم على ذلك وجودهم بجانب البحر وتوفر السمك طازجا .
وهناك نوع من السمك المجفف لا يقل جودة وطيب مذاق عن السمك الطازج وهو " الحوت الناشف " كما يطلق عليه هنا .
.
ويقبل السكان على تناول هذاالنوع من السمك في الصيف ، حيث يطيب أكله مع الرطب ، ويباع بأسعار خيالية ، حيث يتجاوز سعر القرص الواحد ( وهذا اسمه المتعارف عليه عندما يكون جافا ) بأكثر من ثلاثين ريالا بينما لا يتجاوز قيمة السمكة الواحدة الطازجة منه خمسة ريالات .
وله طريقة خاصة في التناول . يتحلق الآكلون فيها حول صحن من الرطب ويتناول كل منهم القرص ويقطع منه قطعة من اللحم الجاف ( مسرة ) بطريقة لا تخلو من مهارة وفن، ثم يناوله الذي بجانبه ليأخذ نصيبه وهكذا ...
وفي جلسة أكل مثل هذه جمعت الشاعر أحمد علي هيرون بمجموعة من أصدقائه رأى أحدهم يستعجل وصول القرص إليه فقال مرتجلا :
أشوفـك تطـل متحسـر
وما اقدر أعدِّيك عن زامك
لما يجيك السـرا مسِِّـر
لأن فيـه نـاس قدامـك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسِّر : اقطع المسرة وهي قطعة من السمك الجاف
 
 
الحلقة الرابعة

بمناسبة الحديث السابق عن السمك الناشف وجودته وطيب مذاقه ، يطيب لي اليوم أن أقدم فكرة مبسطة عن طريقة صنعه .
يقوم الصيادون العاملون بهذه الحرفة أولا باختيار السمك المناسب وتهيئته بطريقة خاصة تعتمد على شقه بطريقة طولية وتنظيفه ومن ثم تعريضه لأشعة الشمس مدة كافية حتى يجف , وهذه الأشعة مع الأملاح المشبع بها السمك كافيتان لإنضاجة دونما حاجة إلى تعريضه للنار . وعادة ما تتم هذه العملية في إحدى الجزر الواقعة في عرض البحر . بعيدا عن القطط والكلاب ، وبعض الحشرات والدواب .
وبعض الناس يقومون بتجفيف كميات قليلة لاستهلاكهم الشخصي في منازلهم .
وقد قام أحدهم بهذه العملية في سطح منزله ولما جاء في اليوم التالي ليتفقد السمك وجد أن أسرابا من النمل قد هاجمته ففكر في طريقة يبعده فيها عن متناول النمل . فلم يجد وسيلة أفضل من أن ينشره على الصحن الفضائي ( الدش ) .
فبلغ هذا الخبر صديقه الشاعر الرائع الأستاذ طه بخيت الذي لم يكذب خبرا ، فأرسل له الكسرة التالية :

قالوا لنا وقلـت مـو معقـول
بيعه مـن الحـوت منشـوره
تناقلتـهـا وكـالـة  قــول
اللـي بالأخبـار  مشـهـوره
من خوف بعض البسوس تفول
أو تدخـل البيـت مـعـذوره
حافظ على ارسالها لا  يطـول
وارجوك لا تشفـر  الصـوره


الحلقة الخامسة

هذه الكسرة من الكسرات الغريبة والنادرة لأنها مبنية على الحركة ، و يستحيل علي المتلقي فهمها دون أن يشاهد إشارة الراوي المقترنة مع الإلقاء ..
والبداية أننا في صيف عام 1391هـ قمنا برحلة إلى مدينة أملج مع مجموعة من ألأصدقاء ، وكانت الرحلة شاقة وعسيرة ، فلم يكن الطريق إليها معبدا آنذاك ، ولم تكن السيارات بالرفاهية التي هي عليها اليوم . وقبل الوصول إلى أملج تعترض طريقك منطقة ( القواق ) حيث يصبح البحر الهادر على يسارك والرمال المتلاطمة على يمينك ، ولا مناص من عبورها إلا بأن ينتظر قائدو السيارات لحظة انخفاض منسوب البحر ( الجزر ) فيجتازونها من مضيق لايتجاوز عرضه المترين وبطول عشرة كيلومترات تقريبا ، ولكنهم بمهارة تدربوا عليها يجعلون عجلات الجانب الأيمن للسيارة في اليابسة وعجلات الجانب الأيسر في البحر وينفذون بطريقة لا تخلو من المغامرة المشوبة بالحذر والخوف .
وهناك استقر بنا المقام في مزرعة للشيخ عوده بن عايد المرواني ، وهي مزرعة وارفة الظلال ، كثيفة الأشجار ، بها أصناف متعددة من الفواكه المتنوعة ، التي تسر الناظر وتبهج القلب . الشئ الذي أنسانا متاعب السفر .. وكان أحد رفاق الرحلة الشاعر خفيف الظل الأستاذ ابراهيم أبو جلاس فقال بروح الدعابة التي يشتهر بها :
 
فبستان عوده ابن عايد
والله كذا : حبة  المنقا

وأشار بيديه الاثنتين عند كلمة كذا ليوضح لنا حجم الثمرة .. فاستغرقنا جميعنا في ضحك متواصل ، قبل أن يكمل كاتب السطور:
 
ومن الجنى طلعها زايـد
تاكل كذا : وانت ما ترقى

وبإشارة أيضا لعملية التناول من الشجرة إلى الفم .
 

الحلقة السادسة

عزم أحمد الزليباني على زيارة ابن عمه حمدان الزليباني في ينبع النخل لرؤيته والسلام عليه ، وكان رفيقه في سفره الشاعر الكبير جميل الريفي والد عميد الغباوي محمد جميل . وعندما وصلوا إلى هناك مروا بجانب مزرعة حمدان الزليباني . ورأوا قنوان البلح دانية ، فاشتهوا أن يتذوقوها ، فطلب جميل من أحمد أن يرقى إلى النخلة ويأتي له ببعض الرطب ، وبما أن الوقت كان قبيل المغرب والرؤية محدودة ، لم يشاهدوا حمدان الذي كان مضطجعا بجانب جدار بجوار هذه النخلة .
وعندما صعد أحمد إلى النخلة .. وجد أن أكثر رطبها ( مفغي ) فنادى على جميل وقال له : ألم تجد غير هذه النخلة لنجني منها إنها ( مفغية ) فقال له جميل :
كب الفغو والقط الغيني
الليل عجل لنا ذلـوان

وكان حمدان يسمع مادار بينهما من حوار دون أن يعلموا . فما كان منه إلا أن أكمل :
 
وحطها بفمك واعطيني
قدام لا يشوفنا  حمدان

وكانت مداخلة ظريفة بالفعل رحمهم الله جميعا .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفغو / حبة الرطب تجف قشرتها ، وتضمر ثمرتها فيصبح طعمها غير مستساغ
الغيني / الرطب الفاخر 
 

الحلقة السابعة

الشاعر محمد مفوز أبو شعبان ( رحمه الله ) أحد شعراء الكسرة العظام ، وله صولات وجولات في ساحات الرديح ، وفي المراسلات . قابل جميع عمالقة الشعر في عصره ، ودارت بينه وبينهم الكثير من المحاورات الخالدة المسجلة في ذاكرة الرواة .
وهو إضافة إلى ذلك شاعر خفيف الظل يتمتع بروح الدعابة والمفاكهة والظرف . ولا تخلو أشعاره من هذه الروح التي تذكرك بالشاعر العباسي بشار بن برد.
ومن كسراته الطريفة هذه الكسرة التي أوردهاالأستاذ القدير خلف أحمد عاشور في كتابه أيام وأيام ، عرضا وهو يتحدث عن معاناة أهالي ينبع في القـديم من شح المياه ، واعتمادهم على ما تنتجه
الكنداسة من ماء قليل ـ وإن لم يشر إلى قائل الكسرة أو مناسبتها ـ إذ يقول :
"
أن الشاعر سطرها في قرطاس بعث به إلى مدير الكنداسة يستحثه بل يحرضه تحريضا عجيبا على إيقاف مكائن الكنداسة عن العمل لمدة شهرين .. لماذا ؟ لست أدري ؟ " والكسرة تقول :
 
لا تحركون المكاين  كان
مني إجازه لكم شهريـن
آنا أجي والزم الأركـان
واملا التوانك بدمع العين

وإجابة على تساؤل الأستاذ خلف تقول الرواية : أن للشاعر صديقا كان يعمل موظفا في الكنداسة ، وهو يريد أن يمنح هذه الإجازة ليكون بصحبته خلالها .
ومن كسراته الطريفة 
 
الكل حظه معه في  فوز
والحظ عيّا معي يرقـى
الناس تاكل هريسه بلوز
آنا أدوّر فجل ما  القـى

وله أيضا 
 
الكل حظه معـه بهـرج
يمشي معه فالحياة مريح
وآنا الذي حظي  الأعرج
قليل يمشي معي ويطيح

وطرافة هذه الكسرة تكمن في أنه يعرض بنفسه في وصف الحظ بالعرج الذي كان يعاني منه .
والمقام لا يتسع لذكر أمثلة كثيرة ، ولكنها معروفة على كل حال ومتداولة بين عشاق الكسرة .

السبت، 6 نوفمبر 2010

خلف أحمد عاشور

أديب الأيام 
خلف أحمد عاشور سبيه 
منصف الأحياء والموتى


عندما أتذكر الأديب خلف عاشور سبيه تستدعي الذاكرة أمير الشعراء أحمد شوقي حين رثائه لشاعر العربية الكبير حافظ إبراهيم عندما قال


قد كنت أوثر أن تقول رثائي *** يا منصف الموتى من الأحياء


مشيدا بوقفة الشاعر الصادقة مع من طواهم الموت وتصديه للدفاع عنهم والذود عن حقوقهم إلى الدرجة التي تمنى فيها أن تكون وفاته قبله ليحظى منه بالإنصاف الذي عرف عنه


هذا الإنصاف الذي أِشار إليه أمير الشعراء في شخصية شاعر العربية أجد فيه شبها كبيرا بالرجل العظيم خلف أحمد عاشور يدفعني للإعجاب بشخصيته في إنصافه للأحياء والأموات من أبناء مدينته ينبع التي عشقها حتى النخاع وأصبح حديثه عنها هو الشغل الشاغل لرجل له من المشاغل العظيمة ما يلهيه عن كل شاغل .. ولكن الوفاء والإخلاص والحب الذي يكتنزه الرجل لينبع وأهلها يدفعه لأن يكون الأول في كل أمر يخصها بدءا من اشتراكه في تمثيلها في أربعة وفود للملك عبد العزيز طيب الله ثراه إلى إلقائه كلمة الأهالي في زيارة الملك سعود لينبع إلى مشاركته في النشاط الرياضي بتأسيسه أول فريق لكرة القدم فريق رضوى ( القديم) لشباب ينبع وليس آخرها تأليفه ثلاثة كتب قيمة تتحدث في جلها عن ينبع عارضا أخبارها ومشيدا بتاريخها وتاريخ أهل ينبع أحياء وأمواتا عارضا مناقبهم ومذكرا بسيرتهم


كان أول الكتب الثلاثة ( أيام وأيام ) لبعض صور اختزنتها الذاكرة في مراحل العمر الذي ولى ـ كما يقول ـ فيها بعض الصور من البلد الذي به ولدت هناك بين الخليجين قريبا من رضوى الأشم تحفل بمراحل العمر الأولى


ثم جاء الكتاب الثاني ( ما لم تقله الأيام ) وكأنه استدراك على بعض ما تركه الكتاب الأول وتظهر فيه صفة الإنصاف التي ذكرناها آنفا في قوله في مقدمته
أما ماتم وضعه من رثائيات لبعض الأحبة الذين رحلوا عن هذه الحياة واستقرت أجسادهم تحت الثرى فليس ذلك من قبيل رصد مشاعر خاصة أحسب أنها تعبر عن بعض الوفاء لبعض من رحل لأن الكثير دأبوا على نسيان الذين مضوا ورحلوا عن هذه الحياة حتى لو كان للكثير من هؤلاء الأحبة بصمات من الخير وجوانب من أعمال سوف تظل محل اعتزاز وحب وإكبار قد لا يحس بها الكثير
كما أنه سجل في هذا الكتاب نماذج من الأدب الرفيع لأبناء ينبع (شعر الكسرة ) وجعل له منه حظا وافرا


وخاتمة الكتب الثلاثة ( ما استبقته الأيام ) ممن بقوا في الذاكرة أنصف فيه أمواتا أدوا خدمات جليلة ولكن الأضواء لم تسلط عليهم لسبب أو لآخر كما جاء فيه ذكر أناس لم يكونوا في الواجهة ولكن كانت لهم أعمال غير مرئية بعض منهم فقراء ولكن كانوا يعيشون في سعادة مما غمرهم الله من قناعة وإيمان قوي


هذه الكتب الثلاثة التي تدور في فلك الأيام حلوها ومرها بما يحق لنا معه أن نطلق عليه لقب ( أديب الأيام ) بلا منازع هي في حقيقتها أسفار خالدة تحمل الحب لينبع وأهلها إضافة لما تحمله من حب لأماكن أخرى من ربوع بلادنا العزيزة كان له فيها مقام وذكريات


أما في مجالسه الخاصة فإن ذكر ينبع لا يفارق لسانه أبدا ويكاد ميناء ينبع وإعادته إلى العصر الذي كان يذكره عليه يشكل له هاجسا كبيرا لا يخلو له حديث حوله ولا يجمعه مجلس بأصحاب الشأن إلا كان حديثه عن ينبع سابقا لحديثه عما هو بصدده


وهو أيضا لم ينقطع عن ينبع وأهلها ومناسباتها ولقاءاتها بل أنه اتخذ له دارا تطل على شاطئ الشرم في ينبع يتقاطر عليه محبوه كلما زارها يأنسون بحديثه ويستأنسون بآرائه يكون فيها مضيفا لا ضيفا حتى لا يثقل على أحد من محبيه وإنك لتعجب من أمر هذا الرجل كيف يخص كل زائر له بجزء من وقته واهتمامه دون أن يشغله أحد عن أحد أو يستأثر به قريب عن غريب .


هذا هو الحب الذي يدفعنا لأن نحبه فنحن مدينون لكل من يحب ينبع ويسعى لرفعتها ولمن يخصها بشئ من اهتماماته فما بالك بمن هي كل اهتماماته
أسأل الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء
وأن يوفقه لما يحب ويرضى
وأدعو جميع أبناء بلدي إلى اقتناء كتبه الثلاثة ففيها كل الفائدة والمتعة التي تعود على مقتنيها بالنفع وهي أقل ما يجب علينا من الوفاء والإخلاص ومبادلة المحب لينبع حبا بحب ووفاء بوفاء
والله الهادي إلى سواء السبيل

عاشق التراث فيصل سالم


عاشق التراث فيصل سالم النزاوي


في هذا المكان تجد الماضي والحاضر والقديم والجديد والأصالة والمعاصرة

غيابي عن مدينتي ينبع زاد من ولعي بماضيها وحبي لتراثها


في الوقت الذي ترتفع فيه الأصوات المحبة مطالبة بإنشاء دار للتراث أو متحف وطني يحافظ على ماتبقى من موروث جميل استطاع رجل من بلدي أن يجمع الماضي والحاضر والقديم والجديد والأصالة والمعاصرة في استراحة ملحقة بمنزله
دعاني الصديق أبو سفيان لرؤية هذه الاستراحة بعد أن نسق مع صاحبها عاشق التراث وابن ينبع البار الرائد فيصل سالم الجهني .. ذهبت معه حتى أوقف سيارته بجانب إحدى الفلل في حي البندر لا يختلف شكلها عن مثيلاتها في الحي إلا بمزيد من الفخامة ، وعندما دلفنا البوابة الخارجية لفناء الفيلا انقطعت صلتنا فجأة بكل مايمت للحاضر بصلة ، وانفتحت أمامنا كوة نطل منها على الماضي الجميل فهذه منازل ينبع القديمة برواشينها العالية ومشربياتها الجميلة ، وهذه القناديل و الأزيار والشراب وهذه عين الماء وهذا البئر والدلو والساقية وهذا بيت الشعر والدلال والوجار والرحى ، وكل ماتراه يشدك نحو ماض عريق ويعرض لك بيئة متناغمة تسر العين وتشرح الصدر
وكان مضيفنا كريما فتح لنا قلبه وبيته وعقله ،فكان لنا معه هذا اللقاء



بادرته منبهرا : ما هذا الذي نراه ؟
قال مبتسما هو تزاوج التاريخ والجغرافيا

ولكن كيف تولدت الفكرة ؟
أنا ابن ينبع وفيها مواطن صباي ومراتع طفولتي ، ومازلت اذكر أزقتها الترابية ومبانيها الحجرية وحواريها القديمة وبعضا من ذلك الزمن الجميل الذي لا يعترف بالفواصل بين بيت وبيت أو بين جار وجار فكل البيوت بيوتنا وكل الآباء آباؤنا وكل الأمهات أمهاتنا ، وفي الغربة باتت هذه الصورة ماثلة في خيالي ، وضربت جذورها في شغاف القلب عشقا للسكان والجدران





حدثنا عن الغربة
غبت عن ينبع من تاريخ 1409هـ عندما التحقت بالكلية البحرية بالجبيل وفي عام 1412هـ صدر تعييني ضابطا (معلم بمعهد حرس الحدود بجده) وفي عام 1422هـ انتقلت الى منطقة تبوك ومكثت فيها إلى أن انتقلت إلى ينبع في 1/8/1425هـ وطيلة هذه الفترة وحب هذه البلدة يعتمر الفؤاد ويبعث الشجى والحنين ، وحينما استقر بي المقام كان شغلي الشاغل هو أن أجسد صورة الماضي الجميل الذي عايشته سايقا في الحاضر الزاهي الذي أعيشه حاليا اعتمادا على ماتركه هذا الماضي في تفسي من انطباع جميل تبرز أجمل مظاهره في بساطة الناس وطيب سجاياهم وسلامة طواياهم فكانت هذه الاستراحة

بم توحي لك هذه الأجواء ؟
هذه الأجواء تعيدني إلى ذلك الزمن الجميل ، وتفتح لي نافذة أتطلع منها إلى مرابع الصبا ومراتع الطفولة وأنا بطبعي أحن إلى هذا الماضي وأعشق هذه الدور التي عاش فيها آباؤنا وأجدادنا وأستوحي مما أراه الكثير من القيم التي اندثر معظمها بفعل الحضارة الحديثة ومجرد النظر إليها يمنحني إحساسا بالراحة والمتعة فتجدني أقف أمامها بالساعات تأملا واستدعاء ذكريات وكنت لاأترك مناسبة إجازة إلا وأزور فيها ما تبقي من هذه المنازل وأتخيل أجدادنا وهم يكابدون قسوة الحياة وشظف العيش ورغم ذلك استطاعوا أن يخرجوا لنا مثل هذه الروائع الخالدة من النقوش الفريدة في الرواشين والمشربيات



كم أخذت من الوقت في بناء هذه الاستراحة ؟
أخذت ما يقارب العشرة شهور ، وكان عملي بها متزامنا مع إنشاء الفيلا الخاصة بي ولكن اهتمامي بهذه الاستراحة كان أكبر ، والجهد الذي بذلته أكثر

هل واجهتك صعوبات في إنشائها ؟
الصعوبات تكمن في قلة الأيدي العاملة المدربة التي تتقن البناء القديم ، وعدم قدرتها على تخيل طرز البناء وعدم توفر مواد البناء القديمة ، ولذلك فلا بد من وجودي دائما ومتابعتي لكل صغيرة وكبيرة فالعماله الاجنبيه التي قامت بالبناء لا تعرف ما أريد فعله من بناء ورواشيين وشبابيك وأبواب ... الخ كما واجهتني أيضا مشكله الطبقه الخارجيه للمباني حتى ظهرت بهذا اللون الطيني القديم ،وايضا تلوين الأبواب والرواشين لم تظهر بهذا اللون العتيق الا بعد خوض أكثر من تجربه






ولكن كيف استطعت أن تكتسب هذه الخبرة وأنت كما يبدو لم تعاصر أساليب البناء القديمة؟
نعم انا صغير السن ولكني لحقت بشيئ قليل من الماضي واستعنت كثيرا بالوالد والوالدة والعم عبدالله باجنيد اطال الله في اعمارهم وكنت اخذ منهم الأفكار والاقتراحات .. ولا أنسى أخي الأستاذ/ أحمد الجهني الذي كان ملازما لي بشكل دائم فهو يعشق التراث مثلي وقمنا معا بكثير من الزيارات المتعدده للأماكن القديمه كما قمنا بتصويرها للاستفاده منها حتى ظهرت الاستراحة بهذا الشكل المشرف

والآن وقد تكونت لديك الخبرة العملية من خلال بناء هذه الاستراحة ، هل يمكن أن تقدمها للمساهمة في إحياء بعض الحواري القديمة ؟
ليس لدي أحب من ذلك فقد أصبح لدي الآن فكره متكامله عن كل شىء بل أنني أتمنى أن تتاح لي فرصة الاشراف على بناء حي متكامل مثل الاحياء القديمه الموجوده حاليا وأطالب أبناء ينبع بالمساهمه في بناء سوق متكامل كالأسواق التي كانت موجوده سابقا مثل ( سوق الليل ) ليصبح معلما من معالم مدينة ينبع يرتاده الزوار والمتنزهين ، وأنا على أتم الاستعداد للمساهمة في ذلك





ألم تفكر في إتاحة الفرصة لعاشقي التراث لزيارة هذه الاستراحة أو تأجيرها مثلا ؟
أنا عاشق للتراث ، ويسعدني أن أرحب بكل عاشق مثلي للمشاركة والاستمتاع وإبداء الرأي والمشورة ، أما بالنسبه لموضوع تأجير الاستراحه فلا أخفيكم أنني فكرت في هذا الأمر فعلا بعد طلب وإلحاح من بعض الأصدقاء ، ولكن كما ترى الاستراحه تحتوي على تحف وشراب وفوانيس وكثير من المقتنيات الثمينة ، وتأجيرها قد يؤدي إلى عبث الأطفال بهذه المحتويات .
ولذلك فأنا لا أمانع من تأجيرها على أن يقتصر ذلك على المناسبات الرجاليه والنسائيه فقط والخاليه من الأطفال





ماسبب التسمية ( استراحة الأصالة ) ؟
قمت بتسمية استراحة الاصاله بهذا الاسم لان الاسم موجود قبل الاستراحه فالاصاله مقرونه بالتراث والماضي فلا يوجد اسم يناسبها الا هذا الاسم وهو عنوان وليس اسم.



هل من كلمة أخيرة ؟
يسرني أن أحمد الله عز وجل وأشكره على أن وفقني كما أشكر الذين ساعدوني على بناء هذه الاستراحه سواء بالافكار والاقتراحات أو أي مساعدات أخرى كما أتوجه بالشكر والتقدير والعرفان لقادة المجالس الينبعاويه وعلى رأسهم الأستاذ الفاضل / عواد الصبحي والاستاذ الفاضل/ أحمد ظاهر الجهني على هذه الزيارة الكريمة وهذه التغطية التي تدل على حبهم واهتمامهم بالتراث الأصيل .. وأتمنى أن يسعى كل ابن من أبناء ينبع على الرفع من مستوى هذه المدينة بأي شىء يستطيع عمله كما أرجو من المسؤلين وعلى رأسهم رئيس بلدية محافظة ينبع ومدير ادارة التربيه والتعليم بالمحافظه على ما تبقى من التراث والمساهمه في بناء حي متكامل من الاحياء القديمه مزود بسوق تباع به الاثار والمقتنيات القديمه بالاضافه الى الارزاق والمأكولات الشعبيه ليكون معلما تراثيا تهفو إليه الأفئدة وترتاح لمرآه النفوس



القديم في الخارج والحديث في الداخل